تحليل قصيدة سربروس في بابل، لبدر شاكر السّياب




منهجيّة تحليل قصيدة شعريّة: تجديدُ الرؤيا


تحليل قصيدة سربروس في بابل، لبدر شاكر السّياب

منهجيّة تحليل قصيدة شعريّة / تجديدُ الرؤيا

إنجازُ الأستاذ: عبد الرّحيم دَوْدِي


المرجع: سربروس في بابل، لبدر شاكر السّياب، كتاب واحة اللغة العربية، ص105.)



        للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية




لم يتوقّف الشّعر الحديث عند العناصر الشكليّة التي أملتها مرحلة تكسير البنية، فهذه المرحلة كانت بداية لمشروع شعري عميق وخلاّق، ارتسمت ملامحه مع ثلّة من الشعراء المحدثين؛ مشروعٌ غايته إعادة تشكيل الوجود وفق تصور ورؤيا جديدة.
لقد شهد الشعر في الخمسينيات من القرن الماضي، تفتق وعيّ شعري بالغ العمق والفرادة، تجسد في اجتراح شعراء المرحلة لأنموذج شعريّ لا يستنسخ الواقع بشكل حذافيري، وإنما يعيد رسمه وتشكيله برؤيا شعرية تستبطن الوجود استبطاناً يصدح بالرمز والأسطورة، ويرشح بأسئلة أنطولوجيّة تنبش الواقع المأزوم قصد البحث عن آفاق رحبة لتخطي الكائن واستشراف الممكن. وبالتالي أصبحت القصيدة تعبّر عن رُؤيا ذاتية وإنسانية تتطلّع إلى الإبحار في أمواج الإنسان، بما هوّ كونٌ وجوديّ ينبضُ بالحياة والتغير والانفلات، ويربأ عن الانحشار في مضايق الفردانية الموحشة.


ومن الشعراء الذين دشنوا هذا المضمار الباسل في الصوغ الشعري واجترحوا هياكله الفنية والتصويرية، وغاصوا في أعماق الإنسان والوجود، نجد الشاعر السوري أدونيس، الشاعر اللبناني أنسي الحاج، الشاعر المغربي محمد السرغيني، ثم الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي نحن بصدد دراسة قصيدته "سربروس في بابل".

يومئ العنوان إلى عوالمَ رمزية أسطورية متوغلة في الميثولوجيا الإنسانية، فهو مركبٌ من لفظتين متباينتين، أولها سربروس؛ الذي يحيل في الأسطورة اليونانية إلى كلبٍ خرافيٍّ يحرسُ عالم الأموات (تاتاروس)، أما ثانيها، بابل؛ فتخبر عن حضارة طاولت شموخ الرفعة والسمو. وإذا حللنا العنوان في بعده الشامل، فالشاعر يلمحُ إلى وحشٍ خرافيٍّ غريبٍ يعيث في بلاد بابل فساداً وتخريباً. وهذا ما تدل عليه بداية القصيدة ونهايتها.


وقد نظم الشاعر قصيدتهُ وفق نظامِ الأسطر الشعريّة المتناسلة داخل مقاطع محدّدة. أسطرٌ شعريّة تم توزيعها على امتداد القصيدة بطريقة مبعثرة يتذابحُ فيها اللون الأسود بالأبيض ضمن ما يمكن تسميته، في كاليغرافيا القصيدة الحديثة، بلعبة البياض والسواد، إذ تمتدُّ بعض الأسطر الشعرية لتشمل تسع تفعيلات وتقصر أحياناً لتشمل تفعلية واحدة، ولهذا الاختيار الفني، الناسف لصنميّة الشطرين، ما يبرره فالمضمون الشعري خاضعٌ للدفقة الشعوريّة الباطنية لا لإرغامات خارجيّة.
نفترض مما سبق، أن النص عبارة عن قصيدة شعرية تنتمي لاتجاه تجديد الرؤيا في الشعر العربي الحديث، وذلك من خلال تجسيد مآسي ومراثي الحضارة العربية الحديثة تجسيداً قوامه الاستثمار الخلاق للذاكرة الرمزية والأسطورية. إذاً شاعرنا بصدد استكناه الأعماق المظلمة والسديمية لأمةٍ طفقت تنطفئ أضواؤها. فإلى أيّ حدّ تمثّل قصيدة سربروس في بابل اتجاه تجديد الرؤيا؟ وما خصائصها المعجمية والفنية؟




تتمحور القصيدة حول فكرة عامةٍ مغزاها؛ تفجعُ الشاعر نتيجة الخراب والدمار المهولين اللذين أرخيا سدولهما المظلمة على الحضارة البابلية من جراء بطش سربروس. وبالتالي فالشاعر بصدد تصوير واقع الانهزام والاندحار في الحضارة العربية، التي تتخبط تحت وطأة الانحطاط الحضاري متأرجحة بين حياة محتملةٍ وموتٍ يقينيّ. ويمكن مفصلة القصيدة إلى أربع وحدات دلالية صغرى. تكشف الوحدة الأولى عن تحدي الشاعر لسربروس الذي لا يني يمعن في تخريب بابل ونشر الرعب والهلع في أهلها نابشاً  قبر تموز (إلهُ الخصب والحياة) ليطفئ كلّ أمل في عودته للحياة. في حين يعربُ الشاعر في الوحدة الدلالية الثانيّة عن أملهِ في انبعاث تموز من مراقد الموت فتؤوب بانبعاثه الحياة. بينما  تغلب على الوحدة الثالثة نبرة الخيبة والانكسار والتحسر فالشاعر يتساءل، بغصة وتفجعٍ، تساؤلاً استنكاريا، عن الوضعيّة المتصدعة التي آلت إليها بابل. لينتهي في الأخير إلى وصف رفيقة الزهور، عشتار، وهي تختال بين الزهور تداري ضربات سربروس المدمية فتنبعث بدمائها النازفة الأشجار والحبوب والأزهار صادحةً بضياء جديد طفق يتخلق في الأفق.


ويقودنا مضمون القصيدة إلى مستويات دلالية عميقة، يمكن بقليل من التحليل السميائي، أن نحدد معالمها وكنهها، فما نقرؤه في القصيدة ليس إلاّ وجها رمزياً نحتاج لتنشيط مسارات التدليل فيه للوصول إلى المعنى الحقيقي. لهذا، يمكن أن نقول، بضرب من التأويل المتمعن، إن القصيدة تعيد تشكيل الواقع الحضاري العربي تشكيلاً رمزيا؛ فسربروس ليس إلا رمزاً للعدو والمستعمر الذي يعيث فساداً في البلاد العربية متعطّشاً لفتق أليافها وأنسجتها، بينما تحيل بابل إلى العراق تخصيصا والبلاد العربية تعميماً؛ في حين أن تموز وعشتار يجسدان الحياة والأمل اللذان يساوران كل إنسان عربي يتحرّق لهفةً لبعث حضارته؛ إنهما رمزا الحياة التي لا يمكن أن تتحقّق إلا بالفداء والدم. وعموماً، فالقصيدة ترشح بمضامين الحياة والموت، وتجسّد رغبة الشاعر العربي في الانعتاق من مخالب الموت، ثم إنها تشي برؤيا وجودية بالغة الأصالة. وهذا لعمري دليلٌ دامغٌ على انتساب قصيدة "سربروس في بابل" إلى اتجاه تجديد الرؤيا.

تبعا لذلك، فإنّ القصيدة تتنزّلُ وفقَ تشاكلٍ دلالي يتجلى في حقلين معجميّين مهيمنين هُمَا حقلا الموت والحياة. ويمكن تحديد الألفاظ والعبارات الدالة على حقل الموت فيما يلي: يمزق الصغار، يشرب القلوب، تخبئ الردى، ينبش التراب، يقصم صلبه القويم، يمص عينيه، شجقه الرهيب، يمزق النعال، لينهض الإلهة الحزينة (...)، بينما تتبدى الألفاظ والعبارات الدالة على حقل الحياة فيما يلي: ينثر الورود والشقيق، يبرعم الحقول، ينثر البيادر النضار، ينتضي الحسام، عشتار، تموز(...).




إن المتأمل في هذه البنية المعجمية، يجد أن القصيدة تتخلق داخل ثنائية ضدية يتصارع فيها الموت بالحياة، تصارعاً طاحناً رهيباً. إن معجم القصيدة مثقلٌ بالأوجاع والدمار لكنهُ يفسحُ مجالاً نصياً يتفجرُ فيه الأمل المتعطش لحياة آمنة لا ظلمَ فيها، حياةٌ يسودها السلامُ والحب لا الحرب والخراب. وقمين بنا، في هذه النقطة من التحليل، التأكيد على أنه معجمٌ يمتحُ من لغةٍ نفيسة رفيعة تعيدُ تشكيل دلالتها وفق تنظيم رمزي انزياحي. من كلّ هذا نخلص إلى أن القصيدة قيد التحليل تنتمي إلى اتجاه تجديد الرؤيا.
اتكاءً على ماسبق، فقد انتظمت القصيدة وفق تيمتي الموت والحياة، فهاتين التيمتين شكلتا بينة بؤرية تصويرية عامة تناسلت داخلها صورٌ جزئية تفيضُ شعريةً وانزياحاً، وهذا بادٍ من المقطع الأول في القصيدة، والذي يتفيأ تحت ظلال الموت، بحيث وظف الشاعر تشبيهين بليغين يرشحانِ بدلالات الموت يصف فيهما عين وشدق سربروس (عيناه نيزكان في الظلام/ شدقهُ الرهيب موجتان من مُدى). بينما ينضح المقطعان الثالث والرابع باستعارت قشيبة تنز بالحياة، ومن أمثلة ذلك (ويطلق السيول من يديه/ النفوس تمطر بالصفاء/ سينبث الإله/ سيولد الضياء). وهي استعارت مكنيّة تنزاحُ عن المواضعات البلاغية المعروفة لتؤسّس منطقاً جديداً في التصوير، ذلك أنّ الإله لا ينبث، والسيول لا تنهمر من اليدين، وإنما رغبة الشاعر في رسم عالمٍ ممكن مسكون بالأمان هي التي استحتثه على الركون إلى الانزياح. وجدير بالذكر، أن الشاعر وظف مجموعة من الرموز والأساطير في تشكيل عوالم قصيدته نسوق منها على سبيل المثال لا الحصر: بابل وهي رمز الحضارة العربية، الدماء وهي رمز للحياة التي لا تتأتى بدون فداء وتضحية، الورود وهي رمز للأمل المؤجّل، والضياء باعتبارها رمزاً للحرية والحياة. ثم إنه وظف أساطير من قبيل: سربروس وهو الكلب الخرافي ذو الرؤوس الثلاث حارس العالم السفلي، تموز إله الخصب والحياة وعشتار إلهة الخصب والحب والحياة.


بناءً عليه، نستشف أن الشاعر قد وظف بنية بلاغيّة خرقت المألوف التصويري، إذ عمد إلى تكثيف صوره بشكل تشكيلي ينسف التخوم المتواضع عليها، ويشيّد توجها تصويرياً ذو طابع انزياحي يتعانق فيه الرمزي بالأسطوري تعانقاً جميلاً وخلاقا،ً ينمُّ عن تصور فريد في البناء والنظم الشعريين، تصورٌ عمادهُ التجديد الرؤيوي الذي اجترحه شعراء الرؤيا.
أما من الناحية الإيقاعية، فقد نظم الشاعر قصيدته على وحدة التفعلية (مستفعلن) والتي تم توزيعها على جسد القصيدة حسب الدفقة الشعورية، مراعياً بذلك الوقفة العروضية ومتجاوزاً الوقفة الدلالية، وهذا يتراءى في المقطع الأول إذ راعى الشاعر الوقفة العروضية عند نهاية كل سطر دون أن تكتمل المعاني الممتدة من السطر الأول إلى السطر السادس. هذا فضلاً عن تنويعه للأرواء والقوافي.


هذا من جهة الإيقاع الخارجي، أما من جهة الإيقاع الداخلي؛ فقد استخدم الشاعر إيقاعاً خارجياً ينهض على التوازي، ومن تجليات ذلك؛ المشابهة بين الوحدات المعجميّة على مستوى مجموعة من الأسطر (تسير في السهول/ تسير في الدروب/ أكانت الحياة/ أكانت القلوب). مع توظيفه أيضاً لمجموعة من التكرارات؛ كتكرار الحروف (السين، الشين، النون...)، وتكرار الكلمات (ينثر/ السماء/ الدماء....)، ثم تكرار الاشتقاق (إله، إلهنا، ألهة/ الدم، الدماء/ ليعو، العواء...). وفي الأخير تكرار اللازمة (ليعوي سربروس ب1و11و51). وعموما، فإن التوازي والتكرار يعدّان من أهم عناصر البناء الشعري، لما لهما من وظيفة جماليّة تمنح النص طاقة إيقاعيّة من شأنها تقوية دلالة النص وإكسابه انسجاماً.


وحريٌّ بنا في هذه المرحلة من التحليل، التأكيد على أن الشاعر قد نسف البنية العروضية الخليلية محيلاً إياها إلى ركامٍ متنافرٍ من الجزئيات الإيقاعية التي تبدو، للوهلة الأولى فوضى عارمة، بيد أنها ليست فوضى، بل إنها تنظيمٌ جديدٌ لوحدات الإيقاع، تنظيم نابعٌ من داخل الشاعر لا من خارجه، وبهذا نكونُ أمام قصيدةٍ تسعفُ الدفق الشعوري الباطني، وتتركب وفق منطقٍ جديد في الرصف والتنضيد والسبك. إنها قصيدة التفعيلة الواحدة لا البحر، تفعيلة لا تأبه لضوابط العروض ولا لمستندات وحدة القافية والروي وتحلم برأب صدوع الواقع رأباً باطنيا رؤيوياً.

وتعج القصيدة بالكثير من الصيغ الإنشائية التي تفيد معانٍ استلزامية بديلة عن معانيها الحرفية ومن ذلك نسوق الأمر الوارد في السطر الأول (ليعو سربروس في الدروب)  فهذه الجملة لا تحمل طاقةً أمرية بقدر ما تحيل إلى استهزاء الشاعر وسخريته من سربروس. والجمل الاستفهامية الواردة في المقطع الثاني (ما القمح؟ ما الثمر؟ أكانت الحقول تزهر؟ أكانت السماء تمطرُ؟) والتي تحيل على التهكم والتعجب. فضلا عن ذلك، فقد احتضنت القصيدة ثلاثة أزمنة متباينة يشي كل زمنٍ بصورةٍ معينة، وتتحدد هذه الأزمنة فيما يلي: زمن الماضي ويدل على اليأس والقلق والضجر، ثم زمن الحاضر وهو صورة مأساوية لا توصف، وفي الأخير زمن المستقبل والذي يوحي إلى الأمل والتفاؤل.


وفي هذا السياق، نشير إلى أن القصيدة قد تناسلت في رحم بنية مكثفة، تتحدد في مرسلٍ هو مأساة بابل ومرسل إليه هو الإنسانية، ورسالة معبّرة عن قيم الخير والعدل التي ينبغي التحلي والاهتداء بنبراسه بدل التوغل في جراح الشعوب ونكئها. والملاحظ أن القصيدة تنزّلت في برنامج سرديّ متماسك؛ انطلق من بداية (تتحدث عن آثار الدمار الذي ألحقه سربروس ببابل)، عبوراً بعقدة (تتحدث عن ملاحقة سربروس لعشتار قصد منعها من جمع أشلاء تموز)، وانتهاءً عند نهاية (تتحدث عن ولادة تموز وانبعاث الحياة). فنكون بذلك أمام بنية شعرية/ قصصية ذات نفس درامي.



وفي المحصلة الأخير، نؤكد أن قصيدة "سربروس في بابل" تعجّ بمضامين الحياة والموت التي عالجها الشّاعر داخل فضاء تتضافر فيه الرموز والإيحاءاتُ، وجسَّدَ معجمها بعمقه اللغوي الجزل واحتقانه الرمزي بقيم الموت والحياة، بينما رسمت صورها الشعرية عالماً تخييلياً فريداً ينتصب على الانزياح والرمز ويركن للأسطورة بما هي أداة تعبيرية قادرة على التقاط فظاعة الواقع وإعادة تشكيلها ميتافزيقياً بأسلوبٍ قصصيٍّ ذي نفسٍ درامي. من كلّ هذا وذاك، نستشف أنّ القصيدة تنتمي إلى تجديد الرؤيا.








حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-