مظاهر تجربة الغربة في الشعر العربي الحديث



مظاهر تجربة الغربة في الشعر العربي الحديث


نموذج محلّل لقولة مُقتطفة من مؤّلف نقدي: 


ظاهرة الشعر الحديث لأحمد المعداوي المجاطي: تجربة الغربة والضياع

للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية



ظاهرة الشعر الحديث لأحمد المعداوي المجاطي: تجربة الغربة والضياع




ورد في كتاب "ظاهرة الشعر الحديث"، لأحمد المعداوي- المجاطي، ما يلي:
"من هذه الزاوية سنحاول دراسة تجربة الغربة، أما هدفنا من هذه الدراسة فهو توكيد أصالة التجربة، والكشف عن جذورها في تربة الواقع. سنتعامل مع الشاعر بوصفه إنساناً غريباً عن كلّ ما حوله، غريباً في الكون الذي يشمله، وفي المدينة التي يضطرب فيها، وفي الحبّ الذي يملأ قلبه، وفي الكلمة التي كانت في البدء...".
-  ظاهرة الشعر الحديث، شركة النشر والتوزيع المدارس- الدارالبيضاء، ط2/ 2007، ص 67.

   

انطلق من هذه القولة، واكتب موضوعاً متكاملاً، تنجز فيه ما يلي:
-  ربط القولة بسياقها العام داخل المؤلّف؛
-  رصد حضور أحد مظاهر تجربة الغربة في الشعر العربي الحديث؛
-  الإشارة إلى مختلف الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة.


    


                                             -التّحليل-


 شكّلت تجربة الغربة والضياع أهمّ الموضوعات التي قام عليها مضمون الشعر الحديث. وقد ارتبطت هذه التجربة بحالة اليأس والمعاناة التي طبعت شعراء الحداثة، بالنظر إلى ما كان يغلف واقعهم من تخلف وفقر، وبالنظر إلى الصدمة التي أحسها الشاعر بعد نكبة فلسطين سنة 1948. على أنّ هذه التجربة قد اختلفت من شاعر لآخر، كما أنها جاءت متعدّدة المظاهر. وسنحاول، في هذا التحليل، الوقوف عند أبرز مظاهر هذه التجربة، موضّحين مختلف الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة.

وردت القولة السابقة في بداية الفصل الثاني، الذي خصّصه الناقد أحمد المجاطي لدراسة تجربة الغربة والضياع في الشعر العربي الحديث، وقد جاءت بمثابة استنتاج لما تناوله الناقد قبلها من عوامل اتجاه الشاعر إلى هذه التجربة، والتي يمكن اختزالها في: أثر واقع الهزيمة العربية أمام إسرائيل في نفوس الشعراء، والتأثر بالثقافة الغربية من خلال أعمال إليوت، وخاصة في قصيدته "الأرض الخراب"، ومن خلال الروائيين والمسرحيين الوجوديين كألبير كامو، وجان بول سارتر... وقد ربط المجاطي غربة الشاعر بواقعه الحضاري، الذي تعدّدت فيه مظاهر الغربة، ومن هنا تآلفت كل من تجربة الشاعر وثقافته من جهة، وواقعه المظلم المغلف بالهزيمة من جهة أخرى، لتعمّق هذه التجربة. على أنّ تأثر الشعراء العرب بهذه الروافد الغربية لا يعني بتاتا التقليد؛ فالمجاطي يؤكّد أصالة هذه التجربة، وانبثاق جذورها من تربة الواقع العربي، هذا الواقع الذي جعل الشاعر يحسّ نفسه ضائعاً وغريبا وممزّقاً.


ومن خلال القولة السابقة نتبيّن أن مظاهر الغربة في الشعر الحديث جاءت متنوعة، فهناك الغربة في الكون، والغربة في المدينة، والغربة في الحبّ، والغربة في الكلمة، وقد وقف المجاطي، في الفصل الثاني من كتابه 'اهرة الشعر الحديث'، بتفصيل عند كلّ مظاهر الغربة السابقة، مستقرئا للكشف عنها مدونة الشعر الحديث، ومادام المقام لا يتّسع هنا لتحليل هذه المظاهر جميعها، فإننا سنكتفي بالوقوف عند مظهر واحد هو: الغربة في المدينة.


لقد انطلق الناقد في تحليله لمظاهر الغربة في المدينة في الشعر الحديث من ملاحظة روزينتال: "أن الشعر الحديث تسيطر عليه، بصفة عامة، أحاسيس المدن الكبرى". مؤكدا أن هذا القول يصدق حتى على شعرنا الحديث، فالمدينة تشكل الوجه الحضاري للأمة، وبخاصة وجهها السياسي. وهكذا رأى المجاطي أن المدن العربية قد فقدت الكثير من أصالتها، بعد أن غزتها مظاهر المدن الأوروبية، التي لا تتناسب في جدتها وصناعتها مع الواقع العربي المهزوم، وهذا أهم أسباب إحساس الشاعر العربي بالغربة في هذه المدن. ويرى المجاطي أن الشاعر الحديث قد سلك في التعبير عن إحساسه بالغربة سبلا متعددة، فتارة كان يصور المدينة في ثوبها المادي، وحقيقتها المفرغة من المحتوى الإنساني، مثل ما فعل عبدالمعطي حجازي في ديوانه "مدينة بلا قلب"، وتارة يصور الناس في المدينة الذين يغلفهم الصمت، ويثقلهم الإحساس بالزمن، وتغيب عندهم قيم التضامن والتعاون، إلى درجة أن الشخص لو مات في زحمة المدينة لا يعرفه أحد، كما قال صلاح عبد الصبور في ديوانه "أغاني الفارس القديم".


وإذا انتقلنا إلى الخلفية المنهجية التي اعتمدها المجاطي في مقاربة تجربة الغربة في الشعر الحديث، وجدناها تمتح من عدة مناهج: فهناك المنهج الموضوعاتي البارز، حيث ركّز الناقد على رصد تمظهرات موضوعة الغربة في الشعر الحديث، بل إنه وقف عند تفريعات هذه الموضوعة من خلال تحليل قصائد كاملة. وهناك المنهج التاريخي- الاجتماعي، الذي تجلى من خلال إشارة الناقد في بداية الفصل الثاني، المخصص للغربة والضياع، إلى العوامل التاريخية والاجتماعية التي فجرت هذه التجربة في الشعر العربي الحديث، وأهمها نكبة فلسطين سنة 1948، وآثار الدمار التي لحقت المجتمع العربي بعد هذه الهزيمة.
أما من حيث الأساليب الحجاجية، فقد وجدنا المجاطي في هذا الفصل حريصاً على الاستدلال بالأمثلة، والشواهد الموضحة لتجربة الغربة والضياع، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات هذا الفصل من أبيات شعرية لشعراء مختلفين.


ومن حيث اللغة، فقد توسّل الناقد بلغة واضحة، ومعجمها يتلاءم في حقله الدلالي مع موضوع الفصل (الغربة والضياع)، حيث تردّدت عبارات: الغربة/الضياع/اليأس/التمزق/الدمار/الشك/الألم/المعاناة/الأزمة/الكآبة... كل هذا مع استعمال الجمل الخبرية القصيرة التي تدل على المعنى المراد وتوضحه بدقّة.

بناء على ما سبق، ننتهي إلى أن المجاطي استطاع من خلال هذا الفصل أن يضع يده على موضوعة أساسية من موضوعات الشعر الحديث، مازالت إلى الآن تشكّل همّا مؤرقا عند أغلب الشعراء المعاصرين.  





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-